فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}.
اعلم أن هذا هو الشبهة الخامسة لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن أهل مكة قالوا تزعم أنك رسول من عند الله أفلا تأتينا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة جملة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود، وعن ابن جريج بين أوله وآخره اثنتان أو ثلاث وعشرون سنة وأجاب الله بقوله: {كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} وبيان هذا الجواب من وجوه: أحدها: أنه عليه السلام لم يكن من أهل القراءة والكتابة فلو نزل عليه ذلك جملة واحدة كان لا يضبطه ولجاز عليه الغلط والسهو، وإنما نزلت التوراة جملة لأنها مكتوبة يقرؤها موسى وثانيها: أن من كان الكتاب عنده، فربما اعتمد على الكتاب وتساهل في الحفظ فالله تعالى ما أعطاه الكتاب دفعة واحدة بل كان ينزل عليه وظيفة ليكون حفظه له أكمل فيكون أبعد له عن المساهلة وقلة التحصيل وثالثها: أنه تعالى لو أنزل الكتاب جملة واحدة على الخلق لنزلت الشرائع بأسرها دفعة واحدة على الخلق فكان يثقل عليهم ذلك، أما لما نزل مفرقًا منجمًا لا جرم نزلت التكاليف قليلًا قليلًا فكان تحملها أسهل ورابعها: أنه إذا شاهد جبريل حالًا بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته فكان أقوى على أداء ما حمل، وعلى الصبر على عوارض النبوة وعلى احتماله أذية قومه وعلى الجهاد وخامسها: أنه لما تم شرط الإعجاز فيه مع كونه منجمًا ثبت كونه معجزًا، فإنه لو كان ذلك في مقدور البشر لوجب أن يأتوا بمثله منجمًا مفرقًا وسادسها: كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم والوقائع الواقعة لهم فكانوا يزدادون بصيرة، لأن بسبب ذلك كان ينضم إلى الفصاحة الإخبار عن الغيوب وسابعها: أن القرآن لما نزل منجمًا مفرقًا وهو عليه السلام كان يتحداهم من أول الأمر فكأنه تحداهم بكل واحد من نجوم القرآن فلما عجزوا عنه كان عجزهم عن معارضة الكل أولى فبهذا الطريق ثبت في فؤاده أن القوم عاجزون عن المعارضة لا محالة وثامنها: أن السفارة بين الله تعالى وبين أنبيائه وتبليغ كلامه إلى الخلق منصب عظيم فيحتمل أن يقال إنه تعالى لو أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم دفعة واحدة لبطل ذلك المنصب على جبريل عليه السلام فلما أنزله مفرقًا منجمًا بقي ذلك المنصب العالي عليه فلأجل ذلك جعله الله سبحانه وتعالى مفرقًا منجمًا.
أما قوله: {كذلك} ففيه وجهان: الأول: أنه من تمام كلام المشركين أي جملة واحدة كذلك أي كالتوراة والإنجيل، وعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار في الآية وهو أن يقول: أنزلناه مفرقًا لتثبت به فؤادك الثاني: أنه كلام الله تعالى ذكره جوابًا لهم أي كذلك أنزلناه مفرقًا فإن قيل: ذلك في {كذلك} يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدمه والذي تقدم فهو إنزاله جملة واحدة فكيف فسر به كذلك أنزلناه مفرقًا؟ قلنا لأن قولهم {لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ جُمْلَةً واحدة} معناه لم نزل مفرقًا فذلك إشارة إليه.
أما قوله تعالى: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} فمعنى الترتيل في الكلام أن يأتي بعضه على أثر بعض على تؤدة وتمهل وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفلجها يقال ثغر رتل وهو ضد المتراص، ثم إنه سبحانه وتعالى لما بين فساد قولهم بالجواب الواضح قال: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} من الجنس الذي تقدم ذكره من الشبهات إلا جئناك بالحق الذي يدفع قولهم، كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] وبين أن الذي يأتي به أحسن تفسيرًا لأجل ما فيه من المزية في البيان والظهور، ولما كان التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه، فقالوا تفسير هذا الكلام كيت وكيت كما قيل معناه كذا وكذا.
أما قوله: {الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس على ثلاثة أصناف صنف على الدواب وصنف على الأقدام وصنف على الوجوه» وعنه عليه السلام: «إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن مشيهم على وجوههم».
المسألة الثانية:
الأقرب أنه صفة للقوم الذين أوردوا هذه الأسئلة على سبيل التعنت، وإن كان غيرهم من أهل النار يدخل معهم.
المسألة الثالثة:
حمله بعضهم على أنهم يمشون في الآخرة مقلوبين، وجوههم إلى القرار وأرجلهم إلى فوق، روي ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقال آخرون المراد أنهم يحشرون ويسحبون على وجوههم، وهذا أيضًا مروي عن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أولى، وقال الصوفية: الذين تعلقت قلوبهم بما سوى الله فإذا ماتوا بقي ذلك التعلق فعبر عن تلك الحالة بأنهم يحشرون على وجوههم إلى جهنم، ثم بين تعالى أنهم شر مكانًا من أهل الجنة وأضل سبيلًا وطريقًا، والمقصود منه الزجر عن طريقهم والسؤال عليه كما ذكرناه على قوله: {أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24] وقد تقدم الجواب عنه.
واعلم أنه تعالى بعد أن تكلم في التوحيد ونفي الأنداد وإثبات النبوة والجواب عن شبهات المنكرين لها وفي أحوال القيامة شرع في ذكر القصص على السنة المعلومة. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}.
في قائل ذلك من الكفار قولان:
أحدهما: أنهم كفار قريش، قاله ابن عباس.
الثاني: أنهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقًا، قالوا: هلا أُنزِل عليه جملة واحدة، كما أنزلت التوراة على موسى.
{كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} فيه وجهان:
أحدهما: لنشجع به قلبك، لأنه معجز يدل على صدقك، وهو معنى قول السدي.
الثاني: معناه كذلك أنزلناه مفرقًا لنثبته في فؤادك.
وفيه وجهان:
أحدهما: لأنه كان أميًا ولم ينزل القرآن عليه مكتوبًا، فكان نزوله مفرقًا أَثبتَ في فؤاده، وأَعلَقَ بقلبه.
الثاني: لنثبت فؤادك باتصال الوحي ومداومة نزول القرآن، فلا تصير بانقطاع الوحي مستوحشًا.
{وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} فيه خمسة تأويلات:
أحدها: ورسلناه ترسيلًا، شيئًا بعد شيء، قاله ابن عباس.
الثاني: وفرقناه تفريقًا، قاله إبراهيم.
الثالث: وفصلناه تفصيلًا، قاله السدي.
الرابع: وفسرناه تفسيرًا، قاله ابن زيد.
الخامس: وبينَّاه تبيينًا، قاله قتادة.
روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا ابْنَ عَبَّاسِ إِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَرِتّلْهُ تَرْتِيلًا» فقلت وما الترتيل؟، قال: بَيِّنْهُ تَبْيينًا وَلاَ تَبْتُرْهُ بَتْرَ الدقلِ، وَلاَ تهذه هذّ الشِّعرِ وَلاَ يَكُونُ هَمَّ أَحدِكُم آخِرَ السُّورَةِ. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}.
روي عن ابن عباس وغيره أن كفار قريش قالوا في بعض معارضتهم لو كان هذا القرآن من عند الله لنزل {جملة} كما نزل التوراة والإنجيل وقوله: {كذلك} يحتمل أن يكون من قول الكفار إشارة إلى التوراة والإنجيل، ويحتمل أن يكون من الكلام المستأنف وهو أولى ومعناه كما نزل أردناه فالإشارة إلى نزوله متفرقًا وجعل الله تعالى السبب في نزوله متفرقًا تثبيت فؤاد محمد عليه السلام وليحفظه، وقال مكي والرماني من حيث كان أميًا لا يكتب وليطابق الأسباب المؤقتة فنزل في نيف على عشرين سنة، وكان غيره من الرسل يكتب فنزل إليه جملة، وقرأ عبد الله بن مسعود {ليثبت} بالياء، والترتيل التفريق بين الشيء المتتابع ومنه قولهم ثغر رتل ومنه ترتيل القراءة، وأراد الله تعالى أن ينزل القرآن في النوازل والحوادث التي قدرها وقدر نزوله فيها، ثم أخبر تعالى نبيه أن هؤلاء الكفرة لا يجيئون بمثل يضربونه على جهة المعارضة منهم كتمثيلهم في هذه بالتوراة والإنجيل إلا جاء القرآن {بالحق} في ذلك بالجلية ثم هو {أحسن تفسيرًا} وأفصح بيانًا وتفصيلًا، ثم توعد الكفار بما ينزل بهم يوم القيامة من الحشر على وجوههم إلى النار وذهب الجمهور، إلى أن هذا المشي على الوجوه حقيقة، وروي في ذلك من طريق أنس بن مالك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل يا رسول الله كيف يقدرون على المشي على وجوههم، وقال «إن الذي أقدرهم على المشي على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم» وقالت فرقة المشي على الوجوه استعارة للذلة المفرطة والهوان والخزي وقوله تعالى: {شر مكانًا} القول فيه كالقول في قوله: {خير مستقرًا} [الفرقان: 24]. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {لولا نُزِّل عليه القرآنُ جُمْلَةً واحدةً}.
أي: كما أُنزلت التوراةُ والإِنجيل والزَّبور، فقال الله عز وجل: {كذلكَ} أي: أنزلناه كذلك متفرِّقًا، لأن معنى ما قالوا: لِمَ نُزِّل عليه متفرِّقًا؟ فقيل: إِنما أنزلناه كذلك {لنُثَبِّتَ به فؤادكَ} أي: لنُقَوِّي به قلبَك فتزداد بصيرة، وذلك أنه كان يأتيه الوحي في كل أمر وحادثة، فكان أقوى لقلبه وأنور لبصيرته وأبعد لاستيحاشه، {ورتَّلْناه ترتيلًا} أي: أنزلناه على الترتيل، وهو التمكُّث الذي يُضادُّ العَجَلة.
قوله تعالى: {ولا يأتونكَ} يعني المشركين {بِمَثَل} يضربونه لك في مخاصمتك وإِبطال أمرك {إِلا جئناك بالحقّ} أي: بالذي هو الحقّ لتَرُدَّ به كيدهم {وأحسنَ تفسيرًا} من مَثَلهم؛ والتفسير: البيان والكشف.
قال مقاتل: ثم أخبر بمستقرِّهم في الآخرة، فقال: {الذين يحشرون على وجوههم} وذلك أن كفار مكة قالوا: إِن محمدًا وأصحابه شُرُّ خلق الله، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: {أولئك شَرٌّ مكانًا} أي: منزلًا ومصيرًا {وأضلُّ سبيلًا} دينًا وطريقًا من المؤمنين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً}.
اختلف في قائل ذلك على قولين: أحدهما: أنهم كفار قريش؛ قاله ابن عباس.
الثاني: أنهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقًا قالوا: هلا أنزل عليه جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود.
فقال الله تعالى: {كَذَلِكَ} أي فعلنا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} نقوي به قلبك فتعيه وتحمله؛ لأن الكتب المتقدّمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون، والقرآن أنزل على نبيّ أميّ؛ ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، ففرقّناه ليكون أوعى للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأيسر على العامل به؛ فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوّة قلب.